الجمعة، أبريل 08، 2011

أبكار الأفكار د.سلمان العودة



76- أبكار الأفكار
د. سلمان بن فهد العودة
كما النَفَس المتردد حين يمنح الحياة للجسد ، كانت القراءة تمنحه حياة العقل والروح ، وتغسل أوضاره .
دمه يتجدد بأنفاس الحرف ، وعقله يغتسل دوماً بنقيعه من معرة الجمود والجهالة .
سياحة عينيه عبر السطور جلبت له كنوزاً معرفية مغرية لم يشأ أن يضيق الخناق عليها ما دام عقله يتسع لها .
هو صياد يدري أن مهمته اقتناص الأفكار وليس تنفيرها !
تدرّب على فكرة الاستعارة ، بنقل الأفكار الجيدة من ميدانها الأصلي إلى ميدان جديد ، فكرة يقرؤها في بحث اجتماعي أو نفسي أو كتاب في الإدارة ، أو مقالة في التنمية ، فيدرجها ضمن درسه في التفسير ، أو محاضرته في الشريعة ، أو برنامجه في الإعلام .
تبدو الفكرة هنا متألقة لدى الطرفين ، لأنها تنتمي إليهم وتقتبس من تخصصهم .
وبهذا أصبحت ازدواجية التخصص ميزة تمنح صاحبها فضلاً ، وتعطيه فسحة لصناعة التلاقح الفكري بين لونين أو أكثر من مكونات المعرفة التي هي في الأصل واحدة .
تعرّف إلى أفكار جديدة حيث لم يكن يظن ، ووجد في الأنهار ما لم يجد في البحار ، وعندما عزف عن دورات القراءة السريعة على أهميتها ، وجدها أمامه في الميدان ، أصبح قارئاً سريعاً ، وأحياناً محلّقاً فوق النص ، يستعرض عشرات العنوانات كتباً ومقالات ، ثم يبطئ السير حيث يجد ضالته ، فيعمق الحفر ، ثم يسجل ويملأ الفراغ في الموضع ذاته ، ليعود إليه بعد ذلك .
أضاف بهذه الطريقة نظرات جديدة إلى ما لديه .
يجد الفكرة بلباس متنكّر ، أو زقاق ضيق ، أو وسط حشد من الأشياء التي تدعو للصدود ، فلا جمال ولا وضوح ، فيخلع عنها ثوبها البالي ، وينقلها من محيطها القاتل ، ويعيد عرضها بلغته ، ويضيف لها من نظائرها ودلائلها ، ويُرصّع على صدرها الغض فصوص الشعر والحكمة واللغة ، فتبدو في تألقها ونصاعتها وكأنها تلوح عنده للمرة الأولى عروساً في زينتها !
السياحة في النص المكتوب تشبه التجوال في المدن الجميلة ، أو المدن الجديدة ، أو المدن الغريبة .
لحظ في الحالتين أن ذكريات مخبوءة تهاجمه دون مقدمات ، ودون سبب معروف ، وأن فلتات من مخزون اللاوعي تنهض إليه ، وتمثل بين يديه ، وأن سوانح فكر تخطر كظبيات القاع في طريقه :
بِاللَهِ يا ظَبَياتِ القاعِ قُلنَ لَنا       لَيلاي مِنكُنَّ أَم لَيلى مِنَ البَشَرِ ؟
يمسك القلم ، ويطلب الورق ، ولو قصاصة تقويم ، أو طرفاً من كرتٍ شخصي ، وأخيراً جهاز الهاتف المحمول .. ليكتب ما خطر له ولسان حاله يقول :
إن أفلتّ هذه المرة فلك العذر ألا تعودي أبداً !
طريقة استخدمها في سنواته العشر الأخيرة ، في كل مرة يستعد للحديث في موضوع ما ، يجمع مئات المواد المتصلة بالموضوع ، ويُعنى بشكل خاص بمستجدات المعرفة التي أصبحت تتسارع في عصر الثورات المتلاحقة .. ثورات معرفية وعملية وتقنية وشعبية .
حتى حين يكون موضوعه مما سبق تناوله ، فهو يدرك أن ثمّ مقالات ظهرت ، وبحوثاً كتبت ، ومعارف استجدت ، وليس علينا أن نكرر أنفسنا ، ولا أن نصدّق أن الناس لا يفهمون !
يشعر بالإخفاق حين يكون مضطراً لتكرار مادة قالها من قبل دون أن يُجري عليها التحديث اللازم ، حتى لو كان أمام جمهور جديد ، عليه أن يجدد نفسه وعقله ويحدّث معلوماته أولاً بأول مهما أمكن .
ربط قراءته بجمهوره ، فهو يقرأ له ولهم ، ويصدق إذ يقول إنهم الحافز الأكبر لقراءته ، فهو مهموم بما يُقدّم لجمهوره الذين يشعر معهم بالترابط العاطفي العميق ، وبالثقة المشتركة ، ويشعر بالمسؤولية الأدبية تجاه انتظارهم ، عليه دوماً أن ينجح في تقديم الأفضل والأحدث والأكثر فائدة والأجمل أيضاً .
في كل مرة يجد نفسه أمام تحدٍ وكأنه يواجهه لأول مرة ، ماذا يجب عليك أن تقول ، كيف تتحدث عن موضوع عادي بطريقة غير عادية ، ما مدى الجدة والعمق والواقعية في فكرة ما لتكون مقبولة ومتصلة بحياة الناس ؟
يعرف بعض أصدقائه الذين يفوقونه في حجم المقروء ، ولكنه لا ينعكس على عطائهم ، لأنه غير متصل بعطائهم ، فالقراءة للمتعة أو للازدياد ولكنها لا تخدم البرنامج الثقافي الذي يقدمونه لجمهورهم .
القلم في يده أخف وأسرع من (الكيبورد) ، ولهذا تجمّع في أرشيفه الذي يحفظه ويرتبه آلاف الأوراق من مسودات كتبها بخط يده ، وكتبها أكثر من مرة .
للمرة الأولى دونها على جوانب المقال أو الكتاب الذي بيده .
عاد إليها في نهاية المطاف ونقلها إلى دفاتره الخاصة .
استعرضها من جديد ليقتبس منها ما يظن أن المقام يسمح بتقديمه ، زماناً وسقفاً سياسياً ومعرفياً واجتماعياً .
وجد أن ما يستذكره ويقوله لا يتجاوز 50% مما كان يريد أن يقوله ، ولا يتجاوز 25% مما قرأه وأعدّه .
تدرّب بما فيه الكفاية على طريقة توليد الأفكار .
الأفكار العظيمة هي دائماً أفكار بسيطة !
حتى تلك التي غيرت مجرى التاريخ ، أو تحولت إلى نظريات ، كانت جمعاً بين فكرتين ، أو إعادة ترتيب ، أو تنفيذاً لفكرة سابقة ، أو إضافة ، أو حذفاً ، أو تفصيلاً .
كَتَبَ ابن حزم مرّة , فذكر أن العلوم إما اختصار طويل أو شرح مختصر أو ابتداع معدوم أو اكتشاف مجهول أو .. إلخ .. فهكذا الأفكار المتوالدة.
في كل مكان فكرة ، وفي كل لحظة فكرة ، ويومياً يمرّ بالإنسان ما بين خمسين إلى تسعين ألف فكرة أو خطرة , حتى وهو شارد الذهن غير قادر على تجميعها وعدّها , أو مجرد الإحساس بها , فعقل الإنسان كما أثبت العلم الحديث لا يتوقف أبداً ولو للحظة بل يشتغل دائماً في يقظة أو منام.. يحلل ويفكر ويتذكر ويحدس , فإذا أراد الإنسان أن يقول ما بدر له من كل ذلك ظن أنه فكر بها للمرة الأولى, على حين أنها ثمرة جهد تحليلي طويل لم ينتبه له الإنسان إلا حينما أراد الحديث عنه !
حين يسمع الناس فكرة جميلة إيجابية في شأن حياتي ، علاقاتٍ أو تجارة أو بناءً أو حضارة أو حلولٍ لمشكلات يتطوع أحدهم ليقول :
-الفكرة كانت عندي ، خطرت في بالي يوماً ! كنت أريد أن أقولها !
أن يقرأ ليستفز الأفكار ، ثم يكتب ليخلّدها ، جعله يدرك جيداً معنى مقولة "مالك بن نبي" في ثلاثية من يناقشون الأشياء ، ثم الأشخاص ، ثم الأفكار .
الطفل الصغير يناقش الأشياء ، ويتطور عقله لاستيعاب الأشخاص ، ويكبر ليكون قادراً على معالجة الأفكار .
لم يشأ أن يظل طفلاً ، وحافظ على الطفل الذي بداخله, أراد طفولة القلب ، ورفض طفولة العقل ، وأشفق على أولئك الذين قرروا أن يموتوا أطفالاً ، ولو ردوا إلى أرذل العمر !
لأن تفكيرهم غير فعّال يُقدم على تسطيح الأشياء ، والنظر إليها بسذاجة ، وإعادة إنتاج الأشياء المعروفة وتكرارها وشخصنة القضايا .
عليه أن يتقبل الأفكار مجردة لا مجسدة ، وهو إذ يردد :
" اعرف الحق تعرف أهله "
" اعرف الرجال بالحق ، ولا تعرف الحق بالرجال "
يدري أن البرمجة العقلية القائمة على الحشو والتكرار والتلقين المجرد تحول الناس إلى مرددين لمقولات سمعوها وتحمسوا لها دون أن يناقشوها .
ويستذكر أبا حنيفة حين قال في مجلسه :
قال الحسن .. وأخطأ الحسن !
فتصدى له رجل وقال : يا ابن الفاعلة ! تقول : أخطأ الحسن ؟!
فهدأه وقال :
غفر الله لك ، أخطأ الحسن ، وأصاب عبد الله بن مسعود !
الفكرة الصادقة لا تعدم سنداً ، وهو ما يبحث عنه ، بعد أن يختبر صدقها !
-هو لا ينتج الأفكار ليقتلها ، فالوأد في شريعته حرام ، ولا ليجهضها فالإجهاض منكر، ولا ليصادمها أو يطردها فكل ذلك زور من القول ، بل ليرعاها ويسقيها ويصححها ويخمرها ويطورها, وربما لينساها ، لكنه لا يقتلها ، فربما تنتفض يوماً وتستعيد وهجها وتألقها وتأخذ عمراً جديداً ! وهكذا هي الكلمات الطيبة : "ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها"
يؤمن أن بذرته الصغيرة ستورق وتكبر وتغدو شجرة ظليلة مثمرة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها .
قد تكون فكرته ، أو فكرة غريبة قام بتوطينها وإزالة الوحشة عنها " والناس أعداء ما جهلوا " .. كان الشوكاني يتحدث يوماً عن علوم لا يعرفها أقرانه فأنكروا عليه ذلك فأنشأ قائلاً:
أتانا أن سهلاً ذم جهلاً .... علوماً ليس يعلمهن سهلُ
علوماً لو دراها ما قلاها .... ولكن الرضى بالجهل سهلُ
عرف أن الأفكار الصحيحة لها أجنحة !
فهي تطير إذاً وتنتقل وتقاوم الحصار .
حضورك المفرط وراء الفكرة أنانية طاغية ، وكم من الأفكار الناجحة نعيشها اليوم ونستفيد منها ولا نعرف مَن وراءها !
حتى هذا القلم الذي تكتب به ، أو الورق ، أو الشاشة ، أنت لا تعرف على وجه التحديد كم من الأفكار الإبداعية مرت بها حتى وصلت إليك !
" الشيخ قوقل " رفيق دائم معه في حضره وسفره ، مهمة الرفيق تسويق الأفكار .
ثورته الجديدة تمكنك من قراءة ما يكتب الآخر حين يكون متلبساً بالكتابة فوراً وبدون أن تضغط الزر .
" الشيخ قوقل " أعطى ملايين الدولارات لأهم الأفكار ، وحصل على 150 ألف فكرة من كل البلاد وبكل اللغات .
هو يقدم هداياه ، ويحصل على المال الذي بذله أضعافاً مضاعفة ، فتسويق الأفكار هو ربح ضخم حتى بالمعيار المادي .
-الفكر الجيد ثمنه فيه !
-والميدان يتسع يوماً فيوماً ، والرجل الذي قيل له : اذهب فادخل الجنة . فقال : ربّ وجدتها ملأى . قيل له : اذهب فإن لك الدنيا وعشرة أمثال الدنيا ..
كان في دنياه متردداً سلبياً محجماً يحسب أن مهمته صناعة المعاذير !
وربما ردد :
ليس في الإمكان أحسن مما كان .
وعرفته كلمة الله أن الكون أوسع مما كان يظن .
أحد أعضاء مكتب الاختراع في أمريكا (1890م) كان يقول :
" كل ما يجب اختراعه قد تمّ اختراعه " !
كيف سيقول لو نظر إلى الكشوف المذهلة المتسارعة في كل العلوم ؟!
تأكد لديه أن الأقفاص الذهنية هي العائق الأكبر دون الإبداع ، والتي يصنعها الاستبداد السياسي والعلمي والاجتماعي ، ليحول الناس إلى مدافعين عن الخطأ بتعبّد وإخلاص !
وكما عرف أن الأجر يكون في إزاحة فكرة سلبية تشاؤمية محبطة عن ضمير فرد أو مجتمع ، فهي " غصن الشوك " الذي يعزله عن طريق الناس .
فهو يعرف أن الفكرة البائسة لابد أن تخلفها فكرة متفائلة ، وإلا فستعود حليمة إلى عادتها القديمة .
وهو يرى أن الفكرة المؤدلجة لا تتحول إلى مجتمع ، حتى لو كانت ذات مرجعية شرعية ، فالحياة أوسع من الإيديولوجيا ،  والتغيير يكون بحفز وتشجيع الأفكار الصائبة ، وحث العقول على المحاولة والإبداع والتصحيح .
من مقروئه ، نقد العقل المسلم للأستاذ عبد الحليم أبو شقة ، مصنف لطيف في تشخيص ألوان النقائص والخلل في طريقة التفكير لدى مسلم العصر .
- الثقافة العربية وعصر المعلومات للدكتور نبيل علي .
-المعلوماتية بعد الإنترنت (مترجم) – بيل قيتس .
بين "نبيل" و"بيل" سرّ في ثورة المعلومات, وتساؤل عن امتدادها العربي.
-مستقبلنا بعد البشري " فرنسيس فوكاياما " ، الذي قرر نهاية التاريخ في بحثه السياسي عاد ليقول : إن العلم ليس له نهاية ، وكذلك التاريخ .
بحوث ومعلومات ضخمة أحسن توظيفها في البحث المترجم عبر (مؤسسة  محمد بن راشد للدراسات) .
عصر العلم لأحمد زويل .
-قتل الطائر المحاكي تأليف هابر لي ، رواية كتبت في مدينة شيكاغو  الأمريكية ، وتم توزيع ثلاثين مليون نسخة منها ، تحكي قصة رجل أسود اتُّهم خطأ باغتصاب امرأة بيضاء ، وتطوع المحامون لتمثيل دور المحاكمة والمحاماة عنه ، وأصبح مضمون الرواية الداعي إلى نبذ العنصرية حديث الناس في المجالس والمنتديات .
-كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – لمايكل كوك ، ترجمة رضوان السيد وآخرين .
كتاب واقعي منصف شامل ، اشتمل على عرض قرآني - تاريخي - مذهبي واقعي لتطبيقات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
المؤلف يقول في بدايته أنه يعتذر لأنه لا يعرف الكثير من اللغات الإسلامية ، لا يعرف إلا العربية والإنجليزية والفارسية والتركية !
دفعه لمعالجة الموضوع مشهد اغتصاب فتاة في محطة قطار في إحدى المدن الأمريكية والناس يمرون وكأن الأمر لا يعنيهم ..
-مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي لمالك بن نبي .
-جرأة الأمل : باراك أوباما ومنه اقتبس فكرة حملته الانتخابية (نعم أنا أستطيع) .
-تحديث العقل العربي : حسن صعب ، كتاب قديم التأليف والمعلومات, حديث الفكرة .
-كتاب " تعليم التفكير " لفتحي جروان , نمط من التأليف نادر في الثقافة العربية.
كتاب " أنقذوا الطفل في داخلكم" تأليف: تشارلز ويتفيلد , وهو إطلالة على الطفل الصغير النائم في أعماق نفوسنا .
بضاعتنا وبضاعة الآخرين ردت إلينا ، والمرء لا يطلب ما عنده ، وهو طالما أنشد في صباه مع الرصافي :
هل العلم في الإسلام إلاّ فريضة       وهل أمة سادت بغير التعلُّم
لقد أيقظ الإسلام للمجد والعلا         بصائر أقوام عن المجد نُوَّم
وحلّت له الأيام عند قدومه            حُباها وأبدت ناظر المتبسّم
(فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون) .
76- أبكار الأفكار

د. سلمان بن فهد العودة
كما النَفَس المتردد حين يمنح الحياة للجسد ، كانت القراءة تمنحه حياة العقل والروح ، وتغسل أوضاره .
دمه يتجدد بأنفاس الحرف ، وعقله يغتسل دوماً بنقيعه من معرة الجمود والجهالة .
سياحة عينيه عبر السطور جلبت له كنوزاً معرفية مغرية لم يشأ أن يضيق الخناق عليها ما دام عقله يتسع لها .
هو صياد يدري أن مهمته اقتناص الأفكار وليس تنفيرها !
تدرّب على فكرة الاستعارة ، بنقل الأفكار الجيدة من ميدانها الأصلي إلى ميدان جديد ، فكرة يقرؤها في بحث اجتماعي أو نفسي أو كتاب في الإدارة ، أو مقالة في التنمية ، فيدرجها ضمن درسه في التفسير ، أو محاضرته في الشريعة ، أو برنامجه في الإعلام .
تبدو الفكرة هنا متألقة لدى الطرفين ، لأنها تنتمي إليهم وتقتبس من تخصصهم .
وبهذا أصبحت ازدواجية التخصص ميزة تمنح صاحبها فضلاً ، وتعطيه فسحة لصناعة التلاقح الفكري بين لونين أو أكثر من مكونات المعرفة التي هي في الأصل واحدة .
تعرّف إلى أفكار جديدة حيث لم يكن يظن ، ووجد في الأنهار ما لم يجد في البحار ، وعندما عزف عن دورات القراءة السريعة على أهميتها ، وجدها أمامه في الميدان ، أصبح قارئاً سريعاً ، وأحياناً محلّقاً فوق النص ، يستعرض عشرات العنوانات كتباً ومقالات ، ثم يبطئ السير حيث يجد ضالته ، فيعمق الحفر ، ثم يسجل ويملأ الفراغ في الموضع ذاته ، ليعود إليه بعد ذلك .
أضاف بهذه الطريقة نظرات جديدة إلى ما لديه .
يجد الفكرة بلباس متنكّر ، أو زقاق ضيق ، أو وسط حشد من الأشياء التي تدعو للصدود ، فلا جمال ولا وضوح ، فيخلع عنها ثوبها البالي ، وينقلها من محيطها القاتل ، ويعيد عرضها بلغته ، ويضيف لها من نظائرها ودلائلها ، ويُرصّع على صدرها الغض فصوص الشعر والحكمة واللغة ، فتبدو في تألقها ونصاعتها وكأنها تلوح عنده للمرة الأولى عروساً في زينتها !
السياحة في النص المكتوب تشبه التجوال في المدن الجميلة ، أو المدن الجديدة ، أو المدن الغريبة .
لحظ في الحالتين أن ذكريات مخبوءة تهاجمه دون مقدمات ، ودون سبب معروف ، وأن فلتات من مخزون اللاوعي تنهض إليه ، وتمثل بين يديه ، وأن سوانح فكر تخطر كظبيات القاع في طريقه :
بِاللَهِ يا ظَبَياتِ القاعِ قُلنَ لَنا       لَيلاي مِنكُنَّ أَم لَيلى مِنَ البَشَرِ ؟
يمسك القلم ، ويطلب الورق ، ولو قصاصة تقويم ، أو طرفاً من كرتٍ شخصي ، وأخيراً جهاز الهاتف المحمول .. ليكتب ما خطر له ولسان حاله يقول :
إن أفلتّ هذه المرة فلك العذر ألا تعودي أبداً !
طريقة استخدمها في سنواته العشر الأخيرة ، في كل مرة يستعد للحديث في موضوع ما ، يجمع مئات المواد المتصلة بالموضوع ، ويُعنى بشكل خاص بمستجدات المعرفة التي أصبحت تتسارع في عصر الثورات المتلاحقة .. ثورات معرفية وعملية وتقنية وشعبية .
حتى حين يكون موضوعه مما سبق تناوله ، فهو يدرك أن ثمّ مقالات ظهرت ، وبحوثاً كتبت ، ومعارف استجدت ، وليس علينا أن نكرر أنفسنا ، ولا أن نصدّق أن الناس لا يفهمون !
يشعر بالإخفاق حين يكون مضطراً لتكرار مادة قالها من قبل دون أن يُجري عليها التحديث اللازم ، حتى لو كان أمام جمهور جديد ، عليه أن يجدد نفسه وعقله ويحدّث معلوماته أولاً بأول مهما أمكن .
ربط قراءته بجمهوره ، فهو يقرأ له ولهم ، ويصدق إذ يقول إنهم الحافز الأكبر لقراءته ، فهو مهموم بما يُقدّم لجمهوره الذين يشعر معهم بالترابط العاطفي العميق ، وبالثقة المشتركة ، ويشعر بالمسؤولية الأدبية تجاه انتظارهم ، عليه دوماً أن ينجح في تقديم الأفضل والأحدث والأكثر فائدة والأجمل أيضاً .
في كل مرة يجد نفسه أمام تحدٍ وكأنه يواجهه لأول مرة ، ماذا يجب عليك أن تقول ، كيف تتحدث عن موضوع عادي بطريقة غير عادية ، ما مدى الجدة والعمق والواقعية في فكرة ما لتكون مقبولة ومتصلة بحياة الناس ؟
يعرف بعض أصدقائه الذين يفوقونه في حجم المقروء ، ولكنه لا ينعكس على عطائهم ، لأنه غير متصل بعطائهم ، فالقراءة للمتعة أو للازدياد ولكنها لا تخدم البرنامج الثقافي الذي يقدمونه لجمهورهم .
القلم في يده أخف وأسرع من (الكيبورد) ، ولهذا تجمّع في أرشيفه الذي يحفظه ويرتبه آلاف الأوراق من مسودات كتبها بخط يده ، وكتبها أكثر من مرة .
للمرة الأولى دونها على جوانب المقال أو الكتاب الذي بيده .
عاد إليها في نهاية المطاف ونقلها إلى دفاتره الخاصة .
استعرضها من جديد ليقتبس منها ما يظن أن المقام يسمح بتقديمه ، زماناً وسقفاً سياسياً ومعرفياً واجتماعياً .
وجد أن ما يستذكره ويقوله لا يتجاوز 50% مما كان يريد أن يقوله ، ولا يتجاوز 25% مما قرأه وأعدّه .
تدرّب بما فيه الكفاية على طريقة توليد الأفكار .
الأفكار العظيمة هي دائماً أفكار بسيطة !
حتى تلك التي غيرت مجرى التاريخ ، أو تحولت إلى نظريات ، كانت جمعاً بين فكرتين ، أو إعادة ترتيب ، أو تنفيذاً لفكرة سابقة ، أو إضافة ، أو حذفاً ، أو تفصيلاً .
كَتَبَ ابن حزم مرّة , فذكر أن العلوم إما اختصار طويل أو شرح مختصر أو ابتداع معدوم أو اكتشاف مجهول أو .. إلخ .. فهكذا الأفكار المتوالدة.
في كل مكان فكرة ، وفي كل لحظة فكرة ، ويومياً يمرّ بالإنسان ما بين خمسين إلى تسعين ألف فكرة أو خطرة , حتى وهو شارد الذهن غير قادر على تجميعها وعدّها , أو مجرد الإحساس بها , فعقل الإنسان كما أثبت العلم الحديث لا يتوقف أبداً ولو للحظة بل يشتغل دائماً في يقظة أو منام.. يحلل ويفكر ويتذكر ويحدس , فإذا أراد الإنسان أن يقول ما بدر له من كل ذلك ظن أنه فكر بها للمرة الأولى, على حين أنها ثمرة جهد تحليلي طويل لم ينتبه له الإنسان إلا حينما أراد الحديث عنه !
حين يسمع الناس فكرة جميلة إيجابية في شأن حياتي ، علاقاتٍ أو تجارة أو بناءً أو حضارة أو حلولٍ لمشكلات يتطوع أحدهم ليقول :
-الفكرة كانت عندي ، خطرت في بالي يوماً ! كنت أريد أن أقولها !
أن يقرأ ليستفز الأفكار ، ثم يكتب ليخلّدها ، جعله يدرك جيداً معنى مقولة "مالك بن نبي" في ثلاثية من يناقشون الأشياء ، ثم الأشخاص ، ثم الأفكار .
الطفل الصغير يناقش الأشياء ، ويتطور عقله لاستيعاب الأشخاص ، ويكبر ليكون قادراً على معالجة الأفكار .
لم يشأ أن يظل طفلاً ، وحافظ على الطفل الذي بداخله, أراد طفولة القلب ، ورفض طفولة العقل ، وأشفق على أولئك الذين قرروا أن يموتوا أطفالاً ، ولو ردوا إلى أرذل العمر !
لأن تفكيرهم غير فعّال يُقدم على تسطيح الأشياء ، والنظر إليها بسذاجة ، وإعادة إنتاج الأشياء المعروفة وتكرارها وشخصنة القضايا .
عليه أن يتقبل الأفكار مجردة لا مجسدة ، وهو إذ يردد :
" اعرف الحق تعرف أهله "
" اعرف الرجال بالحق ، ولا تعرف الحق بالرجال "
يدري أن البرمجة العقلية القائمة على الحشو والتكرار والتلقين المجرد تحول الناس إلى مرددين لمقولات سمعوها وتحمسوا لها دون أن يناقشوها .
ويستذكر أبا حنيفة حين قال في مجلسه :
قال الحسن .. وأخطأ الحسن !
فتصدى له رجل وقال : يا ابن الفاعلة ! تقول : أخطأ الحسن ؟!
فهدأه وقال :
غفر الله لك ، أخطأ الحسن ، وأصاب عبد الله بن مسعود !
الفكرة الصادقة لا تعدم سنداً ، وهو ما يبحث عنه ، بعد أن يختبر صدقها !
-هو لا ينتج الأفكار ليقتلها ، فالوأد في شريعته حرام ، ولا ليجهضها فالإجهاض منكر، ولا ليصادمها أو يطردها فكل ذلك زور من القول ، بل ليرعاها ويسقيها ويصححها ويخمرها ويطورها, وربما لينساها ، لكنه لا يقتلها ، فربما تنتفض يوماً وتستعيد وهجها وتألقها وتأخذ عمراً جديداً ! وهكذا هي الكلمات الطيبة : "ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها"
يؤمن أن بذرته الصغيرة ستورق وتكبر وتغدو شجرة ظليلة مثمرة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها .
قد تكون فكرته ، أو فكرة غريبة قام بتوطينها وإزالة الوحشة عنها " والناس أعداء ما جهلوا " .. كان الشوكاني يتحدث يوماً عن علوم لا يعرفها أقرانه فأنكروا عليه ذلك فأنشأ قائلاً:
أتانا أن سهلاً ذم جهلاً .... علوماً ليس يعلمهن سهلُ
علوماً لو دراها ما قلاها .... ولكن الرضى بالجهل سهلُ
عرف أن الأفكار الصحيحة لها أجنحة !
فهي تطير إذاً وتنتقل وتقاوم الحصار .
حضورك المفرط وراء الفكرة أنانية طاغية ، وكم من الأفكار الناجحة نعيشها اليوم ونستفيد منها ولا نعرف مَن وراءها !
حتى هذا القلم الذي تكتب به ، أو الورق ، أو الشاشة ، أنت لا تعرف على وجه التحديد كم من الأفكار الإبداعية مرت بها حتى وصلت إليك !
" الشيخ قوقل " رفيق دائم معه في حضره وسفره ، مهمة الرفيق تسويق الأفكار .
ثورته الجديدة تمكنك من قراءة ما يكتب الآخر حين يكون متلبساً بالكتابة فوراً وبدون أن تضغط الزر .
" الشيخ قوقل " أعطى ملايين الدولارات لأهم الأفكار ، وحصل على 150 ألف فكرة من كل البلاد وبكل اللغات .
هو يقدم هداياه ، ويحصل على المال الذي بذله أضعافاً مضاعفة ، فتسويق الأفكار هو ربح ضخم حتى بالمعيار المادي .
-الفكر الجيد ثمنه فيه !
-والميدان يتسع يوماً فيوماً ، والرجل الذي قيل له : اذهب فادخل الجنة . فقال : ربّ وجدتها ملأى . قيل له : اذهب فإن لك الدنيا وعشرة أمثال الدنيا ..
كان في دنياه متردداً سلبياً محجماً يحسب أن مهمته صناعة المعاذير !
وربما ردد :
ليس في الإمكان أحسن مما كان .
وعرفته كلمة الله أن الكون أوسع مما كان يظن .
أحد أعضاء مكتب الاختراع في أمريكا (1890م) كان يقول :
" كل ما يجب اختراعه قد تمّ اختراعه " !
كيف سيقول لو نظر إلى الكشوف المذهلة المتسارعة في كل العلوم ؟!
تأكد لديه أن الأقفاص الذهنية هي العائق الأكبر دون الإبداع ، والتي يصنعها الاستبداد السياسي والعلمي والاجتماعي ، ليحول الناس إلى مدافعين عن الخطأ بتعبّد وإخلاص !
وكما عرف أن الأجر يكون في إزاحة فكرة سلبية تشاؤمية محبطة عن ضمير فرد أو مجتمع ، فهي " غصن الشوك " الذي يعزله عن طريق الناس .
فهو يعرف أن الفكرة البائسة لابد أن تخلفها فكرة متفائلة ، وإلا فستعود حليمة إلى عادتها القديمة .
وهو يرى أن الفكرة المؤدلجة لا تتحول إلى مجتمع ، حتى لو كانت ذات مرجعية شرعية ، فالحياة أوسع من الإيديولوجيا ،  والتغيير يكون بحفز وتشجيع الأفكار الصائبة ، وحث العقول على المحاولة والإبداع والتصحيح .
من مقروئه ، نقد العقل المسلم للأستاذ عبد الحليم أبو شقة ، مصنف لطيف في تشخيص ألوان النقائص والخلل في طريقة التفكير لدى مسلم العصر .
- الثقافة العربية وعصر المعلومات للدكتور نبيل علي .
-المعلوماتية بعد الإنترنت (مترجم) – بيل قيتس .
بين "نبيل" و"بيل" سرّ في ثورة المعلومات, وتساؤل عن امتدادها العربي.
-مستقبلنا بعد البشري " فرنسيس فوكاياما " ، الذي قرر نهاية التاريخ في بحثه السياسي عاد ليقول : إن العلم ليس له نهاية ، وكذلك التاريخ .
بحوث ومعلومات ضخمة أحسن توظيفها في البحث المترجم عبر (مؤسسة  محمد بن راشد للدراسات) .
عصر العلم لأحمد زويل .
-قتل الطائر المحاكي تأليف هابر لي ، رواية كتبت في مدينة شيكاغو  الأمريكية ، وتم توزيع ثلاثين مليون نسخة منها ، تحكي قصة رجل أسود اتُّهم خطأ باغتصاب امرأة بيضاء ، وتطوع المحامون لتمثيل دور المحاكمة والمحاماة عنه ، وأصبح مضمون الرواية الداعي إلى نبذ العنصرية حديث الناس في المجالس والمنتديات .
-كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – لمايكل كوك ، ترجمة رضوان السيد وآخرين .
كتاب واقعي منصف شامل ، اشتمل على عرض قرآني - تاريخي - مذهبي واقعي لتطبيقات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
المؤلف يقول في بدايته أنه يعتذر لأنه لا يعرف الكثير من اللغات الإسلامية ، لا يعرف إلا العربية والإنجليزية والفارسية والتركية !
دفعه لمعالجة الموضوع مشهد اغتصاب فتاة في محطة قطار في إحدى المدن الأمريكية والناس يمرون وكأن الأمر لا يعنيهم ..
-مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي لمالك بن نبي .
-جرأة الأمل : باراك أوباما ومنه اقتبس فكرة حملته الانتخابية (نعم أنا أستطيع) .
-تحديث العقل العربي : حسن صعب ، كتاب قديم التأليف والمعلومات, حديث الفكرة .
-كتاب " تعليم التفكير " لفتحي جروان , نمط من التأليف نادر في الثقافة العربية.
كتاب " أنقذوا الطفل في داخلكم" تأليف: تشارلز ويتفيلد , وهو إطلالة على الطفل الصغير النائم في أعماق نفوسنا .
بضاعتنا وبضاعة الآخرين ردت إلينا ، والمرء لا يطلب ما عنده ، وهو طالما أنشد في صباه مع الرصافي :
هل العلم في الإسلام إلاّ فريضة       وهل أمة سادت بغير التعلُّم
لقد أيقظ الإسلام للمجد والعلا         بصائر أقوام عن المجد نُوَّم
وحلّت له الأيام عند قدومه            حُباها وأبدت ناظر المتبسّم
(فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون) .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق